فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر، وهو أنه- سبحانه وتعالى- جعل أبانا مسجود الملائكة؛ وذلك لأنه- تعالى- ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولًا، ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانيًا ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم وذكر الآن كونه مسجودًا للملائكة. اهـ.

.اللغة:

{اسجدوا} أصل السجود: الانحناء لمن يسجد له والتعظيم، وهو في اللغة: التذلل والخضوع، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض.
{إبليس} اسم للشيطان وهو أعجمي، وقيل إنه مشتق من الإبلاس وهو الإياس.
{أبى} امتنع، والإباء: الامتناع مع التمكن من الفعل.
{استكبر} الاستكبار: التكبر والتعاظم في النفس.
{رغدا} واسعا كثيرا لا عناء فيه، والرغد: سعة العيش، يقال: رغد عيش القوم إذا كانوا في رزق واسع، قال الشاعر:
بينما المرء تراه ناعما ** يأمن الأحداث في عيش رغد

{فأزلهما} أصله من الزلل وهو عثور القدم يقال: زلت قدمه أي زلقت ثم استعمل في ارتكاب الخطيئة مجازًا، يقال: زل الرجل إذا أخطأ وأتى ما ليس له إتيانه، وأزله غيره: إذا سبب له ذلك.
{مستقر} موضع استقرار.
{ومتاع} المتاع، ما يتمتع به من المأكول، والمشروب، والملبوس، ونحوه.
{فتلقى} التلقي في الأصل: الاستقبال تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم، ثم استعمل في أخذ الشيء وقبوله، تقول: تلقيت رسالة من فلان أي أخذتها وقبلتها.
{فتاب} التوبة في أصل اللغة: الرجوع، وإذا عديت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية، وإذا عديت بعلى كان معناها قبول التوبة، كما هنا {فتاب عليه}. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{للملائكة اسجدوا} برفع الهاء للإتباع: يزيد وقتيبة. وروى ابن مهران عنهما أنهما يشمان الكاف الكسر ويرفعان الهاء. وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة: الملايكة بغير همز، وكذلك كل كلمة في وسطها همزة مكسورة إلا قوله: {السائلين} و{السائل} و{البائس} فإنهما بالهمز: {شئتما} وبابه بغير همز: أبو عمر ويزيد والأعشى وورش، ومن طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف {فأزالهما} حمزة {آدم} نصب {كلمات} رفع ابن كثير {فلا خوف عليهم} بالفتح حيث كان: يعقوب {هداي} و{محياي} و{مثواي} بالإمالة كل القرآن على غير ليث.
{النار} بالإمالة كل القرآن، وكذلك كل كلمة في آخرها راء مكسورة بعد الألف في موضع اللام من الكلمة قرأها على غير ليث وأبي حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وحمزة في رواية ابن سعدان وأبو عمرو إلا أنه لا يميل {الجار} و{الغار} في بعض الروايات. فروى إبراهيم بن حماد عن اليزيدي {الجار} بالإمالة. وروى ابن مجاهد عن اليزيدي {الغار} بالإمالة، وسائر الروايات عنه بالتفخيم لقلة دورهما. واختلفوا في وقف أبي عمرو في مثل {النار} وأشباه ذلك. فروى ابن مجاهد والحسن بن عبد الله عن النقاش وكثير من أهل العراق أنه يقف كما يصل، وروى سلمة بن عاصم أنه يقف بالتفخيم والأول أكثر.

.الوقوف:

{إبليس} ط لأنه معرف والجملة بعده لا تكون صفة له إلا بواسطة الذي ولا عامل فتجعل الجملة حالًا {الكافرين} o {شئتما} ص لاتفاق الجملتين {الظالمين} o {كانا فيه} ص لعطف الجملتين المتفقتين.
{عدو} ج لاختلاف الجملتين {حين} o {فتاب عليه} ط {الرحيم} ج {جميعًا} ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب {يحزنون} o {النار} ج لأن ما بعدها مبتدأ وخبر. وقيل: الجملة خبر بعد خبر لأولئك، لأن تمام المقصود بوعيد هو الخلود مثل: الرمان حلو حامض {خالدون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله تعالى خلقة آدم عليه السلام بدليل قوله: {إِنّي خالق بَشَرًا مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} [ص: 71، 72] وظاهر هذه الآية يدل على أنه عليه السلام لما صار حيًا صار مسجود الملائكة لأن الفاء في قوله: {فَقَعُواْ} للتعقيب وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد أن صار مسجود الملائكة. اهـ.
قال الفخر:
أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لغير الله كفر والأمر لا يرد بالكفر ثم اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: أن ذلك السجود كان لله تعالى وآدم عليه السلام كان كالقبلة ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين: الأول: أنه لا يقال صليت للقبلة بل يقال صليت إلى القبلة فلو كان آدم عليه السلام قبلة لذلك السجود لوجب أن يقال اسجدوا إلى آدم فلما لم يرد الأمر هكذا بل قيل اسجدوا لآدم علمنا أن آدم عليه السلام لم يكن قبلة.
الثاني: أن إبليس قال أرأيتك هذا الذي كرمت على أي أن كونه مسجودًا يدل على أنه أعظم حالًا من الساجد ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة ولم يلزم أن تكون الكعبة أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن الأول أنه كما لا يجوز أن يقال صليت إلى القبلة جاز أن يقال صليت للقبلة والدليل عليه القرآن والشعر، أما القرآن فقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] والصلاة لله لا للدلوك.
فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال صليت للقبلة مع أن الصلاة تكون لله تعالى لا للقبلة، وأما الشعر فقول حسان:
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف ** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم ** وأعرف الناس بالقرآن والسنن

فقوله صلى لقبلتكم نص على المقصود.
والجواب عن الثاني أن إبليس شكا تكريمه وذلك التكريم لا نسلم أنه حصل بمجرد تلك المسجودية بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر فهذا ما في القول الأول أما القول الثاني فهو أن السجدة كانت لآدم عليه السلام تعظيمًا له وتحية له كالسلام منهم عليه، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك كما يحيي المسلمون بعضهم بعضًا بالسلام وقال قتادة في قوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا} [يوسف: 100] كانت تحية الناس يومئذٍ سجود بعضهم لبعض.
وعن صهيب أن معإذا لما قدم من اليمن سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ ما هذا قال: إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت: ما هذا قالوا: تحية الأنبياء فقال عليه السلام كذبوا على أنبيائهم.
وعن الثوري عن سماك بن هاني قال: دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب فأراد أن يسجد له فقال له عليّ اسجد لله ولا تسجد لي.
وقال عليه الصلاة والسلام لو أمرت أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها.
القول الثالث: أن السجود في أصل اللغة هو الانقياد والخضوع قال الشاعر:
ترى الأكم فيها سجدًا للحوافر

أي تلك الجبال الصغار كانت مذللة لحوافر الخيل ومنه قوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] واعلم أن القول الأول ضعيف لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم عليه السلام، وجعله مجرد القبلة لا يفيد تعظيم حاله وأما القول الثالث فضعيف أيضًا؛ لأن السجود لا شك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير، فإن قيل السجود عبادة والعبادة لغير الله لا تجوز.
قلنا: لا نسلم أنه عبادة، بيانه أن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيدًا كالقول، يبين ذلك أن قيام أحدنا للغير يفيد من الأعظام ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأرض وإلصاقه الجبين بها مفيدًا ضربًا من التعظيم وإن لم يكن ذلك عبادة وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبد الله الملائكة بذلك إظهارًا لرفعته وكرامته. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآَدَمَ} الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام كانقادوا وأطاعوا والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناءًا على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين، وجوز على أن نصب السابق بمقدر، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة وفي المعنى المأمور به هنا خلاف فقيل: المعنى الشرعي، والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وآدم إما قبلة أو سبب واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس، وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم.
وقوله تعالى: {قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ} [الإسراء: 2 6] يدل عليه ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها وأجيب بالتباس الأمر على إبليس، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن ومن الناس من جوّز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعيًا أن السجود للمخلوق إنما منع في شرعنا وفيه أن السجود الشرعي عبادة، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان ولا أراها حلت في عصر من الأعصار.
وقيل: المعنى اللغوي ولم يكن فيه وضع الجباه بل كان مجرد تذلل وانقياد، فاللام إما باقية على ظاهرها، وإما بمعنى إلى مثلها في قول حسان رضي الله عنه:
أليس أول من صلى لقبلتكم ** وأعرف الناس بالقرآن والسنن

أو للسببية، مثلها في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 8 7] وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولًا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 0 3] وهنا {وَإِذَا قُلْنَا} بضمير العظمة لأن في الأول خلق آدم واستخلافه، فناسب ذكر الربوبية مضافًا إلى أحب خلفائه إليه وهنا المقام مقام إبراد أمر يناسب العظمة وأيضًا في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم.
وقرأ أبو جعفر بضم تاء {الملائكة} اتباعًا لضم الجيم، وهي لغة أزدشنوأة وهي لغة غريبة عربية وليست بخطأ كما ظن الفارسي فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت: أفي السوأ تنتنه تريد أفي السوأة أنتنه.
{فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه، وإبليس اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، ووزنه فعليل قاله الزجاج.
وقال أبو عبيدة وغيره: إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى، ووزنه على هذا مفعيل، ومنعه من الصرف حينئذٍ لكونه لا نظير له في الأسماء؛ واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر كإحليل وإكليل وفيه نظر، وقيل: لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب، وليس بشيء. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

سؤال: فإن قيل: كيف استثني وليس من الجنس؟
فالجواب: أنه أمر بالسجود معهم، فاستثني منهم، لأنه لم يسجد، وهذا كما تقول: أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي، هذا قول الزجاج. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في أن إبليس هل كان من الملائكة؟
قال بعضُ المتكلمين: ولاسيما المعتزلة إنه لم يكن منهم وقال كثير من الفقهاء إنه كان منهم واحتج الأولون بوجوه: أحدها: أنه كان من الجن، فوجب أن لا يكون من الملائكة، وإنما قلنا إنه كان من الجن لقوله تعالى في سورة الكهف: {إلا إبليس كان من الجن} [الكهف: 50] واعلم أن من الناس من ظن أنه لما ثبت أنه كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لأن الجن جنس مخالف للملك وهذا ضعيف لأن الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الستر ولهذا سمي الجنين جنينًا لاجتنانه ومنه الجنة لكونها ساترة والجنة لكونها مستترة بالأغصان ومنه الجنون لاستتار العقل فيه، ولما ثبت هذا والملائكة مستورون عن العيون وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود فنقول لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لقوله تعالى: {ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} [سبأ: 40، 41] وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملك.
فإن قيل لا نسلم أنه كان من الجن أما قوله تعالى: {كان من الجن} فلم لا يجوز أن يكون المراد كان من الجنة على ما روى عن ابن مسعود أنه قال كان من الجن أي كان خازن الجنة سلمنا ذلك لكن لا يجوز أن يكون قوله: {من الجن} أي صار من الجن كما أن قوله: {وكان من الكافرين} أي صار من الكافرين سلمنا أن ما ذكرت يدل على أنه من الجن فلم قلت أن كونه من الجن ينافي كونه من الملائكة وما ذكرتم من الآية معارض بآية أخرى وهي قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا} [الصافات: 158] وذلك لأن قريشًا قالت: الملائكة بنات الله فهذه الآية تدل على أن الملك يسمى جنًا؟ والجواب: لا يجوز أن يكون المراد من قوله: {كان من الجن} أنه كان خازن الجنة لأن قوله: {لا إبليس كان من الجن} يشعر بتعليل تركه للسجود لكونه جنيًا ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازنًا للجنة فيبطل ذلك قوله: {كان من الجن} أي صار من الجن.
قلنا هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة وأما قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا} قلنا يحتمل أن بعض الكفار أثبت ذلك النسب في الجن كما أثبته في الملائكة وأيضًا فقد بينا أن الملك يسمى جنًا بحسب أصل اللغة لكن لفظ الجن بحسب العرف اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل ما يدب لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على اللغة الأصلية، والآية التي ذكرناها على العرف الحادث.
وثانيها: أن إبليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم، إنما قلنا إن إبليس له ذرية لقوله تعالى في صفته: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} [الكهف: 50] وهذا صريح في إثبات الذرية له، وإنما قلنا إن الملائكة لا ذرية لهم لأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى والملائكة لا أنثى فيهم لقوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم} [الزخرف: 19] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة فإذا انتفت الأنوثة انتفى التوالد لا محالة فانتفت الذرية، وثالثها: أن الملائكة معصومون على ما تقدم بيانه وإبليس لم يكن كذلك فوجب أن لا يكون من الملائكة.
ورابعها: أن إبليس مخلوق من النار والملائكة ليسوا كذلك إنما قلنا إن إبليس مخلوق من النار لقوله تعالى حكاية عن إبليس {خلقتني من نار} وأيضًا فلأنه كان من الجن لقوله تعالى: {كان من الجن} والجن مخلوقون من النار لقوله تعالى: {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} [الحجر: 27] وقال: {خلق الإِنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار} [الرحمن: 14، 15] وأما أن الملائكة ليسوا مخلوقين من النار بل من النور، فلما روي الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار»، ولأن من المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون، وقيل إنما سموا بذلك، لأنهم خلقوا من الريح أو الروح.
وخامسها: أن الملائكة رسل لقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1] ورسل الله معصومون، لقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] فلما لم يكن إبليس كذلك وجب أن لا يكون من الملائكة واحتج القائلون بكونه من الملائكة بأمرين:
الأول: أن الله تعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو لصح دخوله، وذلك يوجب كونه من الملائكة لا يقال.
الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب، قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه أنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني} [الزخرف: 26، 27] وقال تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيمًا إلا قيلا سلامًا سلامًا} [الواقعة: 25، 26] وقال تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ} [النساء: 29] وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ} [النساء: 92] وأيضًا فلأنه كان جنيًا واحدًا بين الألوف من الملائكة، فغلبوا عليه في قوله: {فسجدوا} ثم استثنى هو منهم استثناء واحد منهم، لأنا نقول: كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل، فذلك إنما يصار إليه عند الضرورة، والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة، ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات، فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات، ولو قلنا إنه ليس من الملائكة، لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع فكان قولنا أولى.
وأيضًا فالاستثناء مشتق من الثني والصرف ومعنى الصرف إنما يتحقق حيث لولا الصرف لدخل والشيء لا يدخل في غير جنسه فيمتنع تحقق معنى الاستثناء فيه، وأما قوله: إنه جني واحد بين الملائكة فنقول: إنما يجوز إجراء حكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه وأما إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز إجراء حكم غيره عليه الحجة الثانية: قالوا لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} متناولًا له، ولو لم يكن متناولًا له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكبارًا ومعصية ولما استحق الذم والعقاب، وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ولا يتناوله ذلك الخطاب إلا إذا كان من الملائكة، لا يقال إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم، فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب وأيضًا فلم لا يجوز أن يقال: إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر، ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} لأنا نقول: أما الأول فجوابه أن الخطابة لا توجب ما ذكرتموه، ولهذا قلنا في أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإِناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين، وأيضًا فشدة المخالطة بين الملائكة وبين إبليس لما لم تمنع اقتصار اللعن على إبليس فكيف تمنع اقتصار ذلك التكليف على الملائكة، وأما الثاني فجوابه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلما ذكر قوله: {أبى واستكبر} عقيب قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر لا بسبب مخالفة أمر آخر فهذا ما عندي في الجانبين والله أعلم بحقائق الأمور. اهـ.